الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} يقول الحق جلّ جلاله: {فارتقبْ} فنتظر {يوم تأتي السماءُ بدُخان مبين} قال عليّ وابن عباس وابن عمر والحسن رضي الله عنهم: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة، يُصيب المؤمن منه مثل الزكام، ويُنضج رؤوسَ المنافقين والكافرين، حتى تكون كأنها مصليَّة حنيذة، وتكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه نار، ليس فيه خِصاص، ويؤيد هذا حديث حذيفة: «أول الآيات الدخان، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن، تسوق الناس إلى الحشر، تقيل معهم إذا قالوا...» الحديث، انظر الثعلبي. وأنكر هذا ابن مسعود، وقال: هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجوع دخاناً بينه وبين السماء. ويؤيده ما يأتي بعده. وقوله: {مبين} أي: ظاهر لا يشك أحد أنه دخان، {يغشى الناسَ} أي: يحيط بهم، حتى كان الرجلُ يُحدّث الرجلَ، ويسمع كلامه، ولا يراه من الدخان، أي: انتظر يوم شدة ومجاعة؛ فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، إما لضعف بصره، أو لأن عام القحط يُظلِم الهواء لقلة الأمطار، أو كثرة الغبار، {هذا عذابٌ أليم} أي: قائلين هذا عذاب أليم. ولما اشتد بهم القحط، مشى أبو سفيان، ونفر معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله تعالى والرحم، وواعدوه إن دعا لهم، وكشف عنهم، أن يؤمنوا، وذلك قوله تعالى: {ربنا اكشف عنا العذاب إِنا مؤمنون} أي: سنؤمن إن كُشف عنا العذاب، قال تعالى: {أنَّى لهم الذكرَى} أي: كيف يذَّكرون ويتَّعظون ويَفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، {وقد جاءهم رسول مبين} أي: والحال أنهم يُشاهدون من دواعي التذكير وموجبات الاتعاظ، ما هو أعظم منه، حيث جاءهم رسول عظيم لشأن، بيِّن البرهان، يُبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صُمّ الجبال. {ثم تَولوا عنه} أي: عن ذلك الرسول، بعدما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإبال عليه، ولم يقنعوا بالتولِّي، بل اقترفوا ما هو أشنع، {وقالوا} في حقه عليه السلام: {مُعَلَّمٌ مجنون} أي: قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وتارة مجنون، أو: يقول بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى: {إِنا كاشفوا العذاب قليلاً} أي: زمناف قليلاً، أو كشفاً قليلاً، {إِنكم عائدون} إلى الكفر، الذي أنتم فيه، أو: إلى العذاب بعد صرف الدخان، على القول الأول، {يوم نبطشِ البطشةَ الكبرى} يوم بدر، أو يوم القيامة، {إِنا منتقمون} أي: ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب {يوم نبطش} باذكر أو بما دلّ عليه {إنا منتقمون}، وهو ننتقم، لا بمنتقمون، لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبله. الإشارة: {فارتقب} أيها العارف {يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي: يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس، فتحجبهم عن شمس العرفان، هذا عذاب أليم موجع للقلوب، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية، ونهاره مشرق على الدوام، كما قال شاعرهم: لَيلِي بوجهكَ مشْرقٌ *** وظلامُهُ في الناس سَارِ الناسُ في سَدَفِ الظَّلامِ *** ونحنُ في ضوءِ النَّهارِ وقال آخر: طَلَعتْ شَمْسُ مَن أُحبُّ بِليلٍ *** فَاسْتَنارَتْ فما تلاها غُروبُ إِن شمسَ النَّهارِ تَغْربُ بِليلٍ *** وشَمسُ القُلوبِ لَيْسَت تغِيبُ قال القَشيري: قيامة هؤلاء- أي الصوفية- مُعَجَّلة لهم، يوم تأتي السماء فيه بدخان، مبين، وهو باب غيبة الأخبار، وانسداد باب ما كان مفتوحاً من الأنس بالأحباب. قلت: وأحسن من عبارته أن تقول: وهو باب غيبة الأنوار، وانسداد نبع الأسرار. ثم قال: وفي معناه قالوا: فلاَ الشمس شَمْسٌ تستنيرُ ولا الضحى *** بطَلْقٍ ولا ماءُ الحياة بباردِ ه. وقوله تعالى: {ربنا اكشف عنا العذاب} قال القشيري: وقد يستزيد هؤلاء العذاب على العكس من أحوال الخلق، وفي ذلك أنشدوا: وكلُّ مآربي قدْ نِلْتُ مِنها *** سِوى مُلكِ وَدِّ قَلْبي بالعذاب فهم يسألون البلاء بدل ما يستكشفه الخلق، وأنشدوا: أَنْتَ البلاَءُ فكيف أرجوا كَشْفه *** إنَّ البلاء إذا فقدتُ بلائي ه. قلت: وأصرح منه قول الشاعر: يا مَنْ عَذَابي عذبٌ في مَحَبَّته *** لاَ أشْتكِي منك لا صَدّاً ولا مَلَلا وقول الجيلاني رضي الله عنه: تَلَذُّ ليَ الآلامُ إِذ كنتَ مُسقِمي *** وَإن تَخْتبِرني فهي عِنْدي صنَائِعُ تَحكَّمْ بما تَهْواه فيَّ فإنني *** فَقِيرٌ لِسلطانِ المحبة طائِعُ قوله تعالى: {أنَّى لهم الذكرى} أي: كيف يتّعظ مَن تنكَّب عن صحبة الرجال، وملأ قلبه بالخواطر والأشغال؟ وقد جاءهم مَن يدعوهم إلى الكبير المتعال، فأنكروه، وقالوا: مُعَلَّمٌ مجنون، إنا كاشفوا العذاب عن قلوبهم من الشكوك والخواطر قليلاً، حين يتوجهون إلينا، ويفزعون إلى بابنا، أو يسمعون مِن بعض أوليائنا، ثم تكثر عيهم الخواطر، حين تنقشع عنهم سحابة أمطار الواردات من قلوب أوليائنا، إنكم عائدون إلى ما كنتم عليه، {يوم نبطش البطشة الكبرى} هي خطفة الموت، فلا ينفع يفها ندم ولا رجوع، بل يورثهم حزناً طويلاً، فلا يجدون في ظلال انتقامنا مقيلاً، فننتقم ممن أعرض بسريرته عن دوام رؤيتنا.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)} يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد فتنا قبلهم} قبل هؤلاء المشركين، {قومَ فرعون} أي: امتحانهم بإرسال موسى عليه السلام، أو: أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الأرزاق، أو فعلنا بهم فعل المختبِر؛ ليظهر ما كان باطناً، {وجاءهم رسولٌ كريمٌ} موسى عليه السلام، أي: كريم على الله، أو على المؤمنين، أو في نفسه حسيب نسيب، لأن الله تعالى لم يبعث نبيّاً إلا من سادات قومه: {أنْ أدُّوا إِليَّ عبادَ الله} أي: بان أدُّوا إليّ، أي: ادفعوا عبادَ الله، وهم بنو إسرائيل، بأن ترسلوهم معي، فكانت دعوة موسى لفرعون بعد الإقرار بالتوحيد إرسال بني إسرائيل من يده، أو: بأن أدُّوا إليّ يا عباد الله ما يجب عليكم من الإيمان، وقبول الدعوة، فالعباد على هذا عام. ف «إن» مفسرة؛ لأن مجيء الرسل لا يكون إلا بدعوة، وهي تتضمن القول، أو مخففة، أي: جاءهم بأن الشأن أدوا إليّ، و«عبادُ الله» على الأول: مفعول به، وعلى الثاني: منادى، {إِني لكم رسولٌ أمين} تعليل للأمر، أو لوجوب المأمور، أي: رسول غير ظنين، قد ائتمنني الله على وحيه، وصدّقني بالمعجزات القاهرة. {وأن لا تعلوا على الله} أي: لا تتكبّروا على الله بالاستهانة بوحيه وبرسوله أو: لا تتكبروا على نبيّ الله، {إِني آتيكم} من جهته تعالى {بسلطانٍ مبين} بحجة واضحة، لا سبيل إلى إنكارها، تدل على نبوتي، وفي إيراد الأداء مع الأمين، والسلطان مع العلو، من الجزالة ما لا يخفى، {وإِني عُذْتُ بربي وربكم} أي: التجأت إليه، وتوكلتُ عليه، {أن ترجمون} من أن ترجمون، أي: تؤذونني ضرباً وشتماً، أو تقتلوني رجماً. قيل: لما قال: {وأن لا تعلوا على الله} توعّدوه بالرجم، فتوكّل على الله، واعتصم به، ولم يُبال بما توعّدوه. {وإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلونِ} أي: وإن كابرتم ولم تُذعنوا لي، فلا مولاة بيني وبين مَن لا يؤمن، فتنحُّوا عني، أو: فخلُّوني كفافاً لا لي ولا عليّ، ولا تتعرضوا لي بشرِّكم وأذاكم، فليس ذلك جزاء مَن دعاكم إلى ما فيه فلا حُكم، قال أبو السعود: وحَمْلُه على قطع الوصلة وعدم الموالاة بينه وبينهم، يأباه المقام. {فدعا ربَّه} بعدما تمادوا على تكذيبه، شاكياً إلى ربه: {أَنَّ هؤلاء} أي: بأن هؤلاء، {قوم مجرمون} وهو تعريض بالدعاء عليهم، بذكر ما استوجبوه، ولذلك سمي دعاء، وقيل: كان دعاؤه،: اللهم عجِّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم، وقيل: هو قوله: {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10] وقيل: قوله: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85] وقُرئ بالكسر على إضمار القول. قال تعالى له بعدُ: {فأَسْرِ بعبادي ليلاً} والفاء تؤذن بشرط محذوف، أي: إن كان الأمر كما تقول {فأسْرِ بعبادي} بني إسرائيل {ليلاً إِنكُم مُتَّبعون} أي: دبّر الله أن تتقدموا، ويتبعكم فرعون وجنوده، فننجّي المتقدمين، ونغرف الباقين، {واترك البحر رَهْواً} ساكناً على حالته بعدما جاوزته، ولا تضربه بعصاك لينطبق، ولا تُغيره عن حاله ليدخله القبط، أراد موسى عليه السلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق، فأمره أن يتركه ساكناً على هيئته، قاراً على حالته، من انتصاب الماء كالطود العظيم، وكون الطريق يبساً لا يُغير منه شيئاً، ليدخله القبط، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم، فالرهو في كلام العرب: السكون، قال الشاعر: طَيرٌ رَأَتْ بازياً نَضحَ الدُّعاءُ به *** وأُمَّةٌ خَرَجَتْ رَهْواً إلى عيدِ أي: ساكنة، وقيل: الرهو: الفرجة الواسعة، أي: اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً، {إنهم جند مُغْرَقون} بعد خروجكم من البحر. وقرئ بالفتح، أي: لأنهم. الإشارة: كل زمان له فراعين، يحبسون الناسَ عن طريق الله، وعن خدمته، فيبعث الله إليهم مَن يُذكَّرهم، ويأمرهم بتخلية سبيلهم، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم، فإذا كُذّب الداعي، قال: وإن لم تؤمنوا فاعتزلون، فإذا أيِس من إقبالهم دعا عليهم، فيغرقون في بحر الهوى، ويهلكون في أودية الخواطر. وبالله التوفيق.
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)} يقول الحق جلّ جلاله: {كم تركوا من جناتٍ وعُيون} أي: كثيراً ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين. رُوي أنها كانت متصلة بضفتي النيل جميعاً، من رشيد إلى أسوان، {وعُيون} يحتمل أن يريد الخلجان، شَبَّهها بالعيون، أو كانت ثَمَّ عيون وانقضت، {وزُروعٍ} أي: مزارع، {ومَقام كريم} محافل مُزينة، ومنازل مُحسَّنة، وسمّاه كريماً؛ لأنه مجلس الملوك، وقيل: المنابر، {ونَعْمةٍ} أي: بسطة ولذاذة عيش وتنعُّم، {كانوا فيها فاكِهين} أي: متنعّمين فرحين مسرورين. وفي المشارق: النعمة- بالفتح التنعُّم، وبالكسر: اسم ما أنعم الله به على عباده، قال ابن عطية: النعمة- بالفتح: غضاوة العيش، ولذاذة الحياة، والنعمة- بالكسر: أعم من هذا كله، وقد تكون الأمراض والمصائب نِعماً، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. ه فانظره. {كذلك} أي: الأمر كذلك، فالكاف في محل الرفع، على أنه خبر عن مضمر، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه: {تركوا} أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، {وأورثناها قوماً آخرين} ليسوا منهم في شيء في قرابة ولا دين، ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل، بأن تولُّوا أحكامها والتصرُّف فيها. وقال الحسن: رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر، نظيره: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفَونَ...} [الأعراف: 137] الآية، ومثله عن القرطبي والبيضاوي، وكذلك في نوادر الأصول، وقد تقدّم الكلام عليه في الشعراء. وفي الآية اعتبار واستبصار، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار، وسيأتي في الإشارة ما فيه كفاية نظماً ونثراً. {فما بَكَتْ عليهم السماءُ والأرض} مجاز عن الاكتراث بهلاكهم، والاعتداد بوجودهم، وفيه تهكُّم بهم، وبحالهم المنافية، بحال مَن يعظم فقده، فيقال: {بكت عليهم السماء والأرض} وكانت العرب إذا عظَّمت مهلك رجل قالوا: بكته الريحُ والبرقُ والسماء، قال الشاعر: الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَها *** والبَرْقُ يَلْمعُ فِي الغمامَهْ وقال جرير، يرثي عمر بن عبد العزيز: فالشَّمسُ طالِعةٌ ليستْ بكاسفةٍ *** تَبكي عليك نُجُومَ اللَّيل والْقَمَرَا حُمّلْتَ أمراً عظيماً فاصطَبرَتْ له *** وقُمْتَ فينا بأمر اللّهِ يَا عُمَرا وقيل: البكاء حقيقة، وأن المؤمن تبكي عليه من الأرض مُصلاَّه، ومحل عبادته، ومن السماء مَصْعدُ عمله، كما في الحديث، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر، ودوابه، وهَوام البر وأنعامه، والطير في الهواء، وهؤلاء لمَّا ماتوا كُفاراً لم يعبأ الوجودُ بفقدهم، بل يفرح بهلاكهم، {وما كانوا} لّمَّا جاء وقت هلاكهم {مُنظّرين} ممهلين إلى وقت آخر، أو إلى الآخر، بل عجّل لهم في الدنيا. {ولقد نجينا بني إِسرائيلَ} لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا {من العذاب المهين} من استعباد فرعون إياهم، وقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم، {من فرعون} بدل من العذاب المهين بإعادة الجار، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم، أو خبر عن مضمر، أي: ذلك من فرعون، وقُرئ «مَن فرعون» على معنى: هل تعرفونه مَن هو في عتوه وتفرعنه؟ وفي إبهام أمره أولاً، وتبيينه بقوله تعالى: {إِنه كان عالياً من المسرفين} ثانياً، من الإفصاح عن كُنه أمره في الشر والفساد مما لا مزيد عليه وقوله تعالى: {من المسرفين} إما خبر ثان، أي: كان متكبراً مسرفاً، أو حال من الضمير في «عالياً» أي: كان رفيع الطبقة من بين المسرفين، فائقاً لهم، بليغاً في الإسراف. {ولقد اخترناهم} أي: بني إسرائيل {على عِلْمٍ} أي: عالِمين بأنهم أحقاء بالاختيار، أو عالِمين بأنهم يزيغون في بعض الأوقات، ويكثر منهم الفرطات، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات، {على العالَمين} أي: عالمي زمانهم، لما كثر فيهم من الأنبياء، {وآتيناهم من الآيات} كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغيرها من عظائم الآيات، {ما فيه بلاء مبين} نعمة ظاهرة، أو: اختبار ظاهر، لينظر كيف يعملون، وقيل: البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرضا، والصبر عند الكدر والعناء. الإشارة: كم ترك أهلُ الغفلة والاغترار، من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، من قصور وديار، فارقوها، أخصب ما كانوا فيها، وأُزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخِّرق والأكفان، فيا مَن ركن إلى الدنيا، انظر كيف تفعل بأهلها، فرحم الله عبداً أخذ من الدنيا الكفاف، وصاحب فيها العفاف، وتزوّد للرحيل، وتأهّب للمسير. ذكر الطرطوسي في كتابه «سراج الملوك»: قال أبو عبد الله بن حمدون: كنتُ مع المتوكل، لما خرج إلى دمشق، فركب يوماً إلى رصافة «هشام بن عبد الملك» فنظر إلى قصورها خاوية، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم، حسن البناء، بين مزارع وأشجار، فدخله، فبينما هو يطوف به، إذ بَصُر برقعة قد التصقت بصدره، فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات. أَيا مَنْزلاً بالدّيْرِ أَصْبَحَ خَالياً *** تَلاعَبَ فيه شمألُ ودِفُورُ كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بيضٍ نَوَاعمٌ *** وَلَمْ يَتَبَخْتَر في قِبابِكَ حُورُ وأَبْنَاءُ أَمْلاكِ غَواشِمُ سَاداتٍ *** صَغِيرهم عِندَ الأنَامِ كَبِيرُ إذَا لَبسوا أَدْرَاعَهم، فعَوَابسٌ *** وَإن لَبسوا تيجانَهمْ فَبُدورُ علَى أنَّهم يَومَ اللِّقاء ضَرَاغِمٌ *** وأَنَّهم يوم النَّوالِ بُحورُ ليالي هِشامٌ بالرّصاَفَةٍ قاطنٌ *** وفيك ابنه يا دَيْرَ وَهُوَ أَميرُ إلى أن قال: بلَى فسقاكِ الْقَيثُ صَوب سحائبٍ *** عَلَيْك بِها بَعد الرَّواحِ بُكْورُ تَذَكَّرْتُ قَومي فيكما فَبَكيتهم *** بشَجْوٍ ومثْلِي بالبُكَاءِ جديرُ فعَزيْتُ نَفْسِي وهْي نَفَسٌ إذا جَرى *** لَها ذِكْر قَومِي أَنَّةٌ وزفِيرُ فلما قرأها المتوكل ارتاع، ثم دعا صاحب الدير، فسأله: مَن كتبها؟ فقال: لا علم لي، وانصرف ه. ومن هذا القبيل ما وجد مكتوباً على باب «كافور الإخشيدي» بمصر: انْظر إلى عِبرِ الأيَّامِ مَا صنعتْ *** أَفْنَتْ أنَاساً بها كانوا ومَا فينتْ دِيارهم ضَحِكَتْ أَيَّامَ دولتِهِمْ *** فإِذا خلَتْ مِنْهُم صاحتهم وبَكَتْ ومن هذا أيضاً ما وُجد على قَصر «ذي يزن» مكتوباً: بَاتوا على قُلَل الأجْبَال تَحْرسُهمْ *** غُلْبُ الرجال فلمْ تمنعْهم الْقُلَل واستُنزلوا منْ أَعالِي عز معْقلهمْ *** فأُسْكِنوا حُفراً، يا بِئْسَ ما نَزَالوا أَيْنَ الْوجوه التي كانت محَجَّبةً *** من دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكلل؟ فأَفْصح القبرُ عَنْهم حين سائلهم *** تِلْك الوجوه عَلَيْهَا الدود تقتبلُ قد طالَ ما أَكَلوا دهراً وما شَرِبُوا *** فَأصبحوا بَعدَ طُولِ الأكْلِ قد أُكلوا وحاصل الدنيا ما قال الشاعر: أَلاَ إِنَّما الدنيا كأَحْلامِ نَائِم *** وَمَا خَيْر عَيْشٍ لاَ يَكونُ بِدائم؟! تَأمَّلْ إذَا ما نِلْت بالأمْسِ لَذَّةً *** فَأفنَيْتها هَلْ أَنْتَ إلا كَحَالِم؟! هذه فكرة اعتبار، وأما فكرة استبصار، فما ثَمَّ إلا تصرفات الحق، ومظاهر أسرار ذاته، وأنوار صفاته، ظهرت في عالم الحكمة بالأشكال والرسوم، وأما في عالم القدرة فما ثَمَّ إلا الحي القيوم. تَجلّى حَبِيبي فِي مرائي جَمَالهِ *** فَفِي كلِّ مَرئيٍّ لِلحَبِيبِ طَلاَئِعُ فلَمَّا تَبَدَّى حُسْنهُ متنوِّعاً *** تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فهن مَطَالِعُ وقوله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} يُفهم منه: أن من عظم قدره تبكي على فقده السموات والأرض ومَن فيهن، في عالم الحس، الذي هو عالم الأشباح وتفرح به أهل السموات السبع في عالم الأرواح؛ لتخلُّصه إليها، فيستبشر بقدومه كل مَن هنالك، وينظر اللّهُ إلى خلقه بعين الرحمة، فيرتحم ببركة قدومه الوجود بأسره. والله ذو الفضل العظيم. وقوله تعالى: {ولقد اخترناهم على علم} قال القشيري: ويُقال: على علم بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا، ويقال: على علم بما نُودع عندهم من أسرارنا، ونكاشفهم به من حقائق حقنا. وقال الورتجبي: {ولقد اخترناهم على علم} أي: على علم بصفاتنا، ومعرفة بذاتنا، ومشاهدة على أسرارنا، وبيان على معرفة العبودية والربوبية، ودقائق الخطرات والقهريات واللطيفات في زمان المراقبات. ه. وق الواسطي: اخترناهم على علم منا بجنايتهم، وما يقترفون من أنواع المخالفات، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا لهم، ليُعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات. وقال الجرّار: علما ما أودعنا فيهم من خصائص سرنا، فاخترناهم بعلمنا على العالمين. ه. قلت: والمقصود بالذات: بيان أن اختياره- تعالى- مرتّب على سابق علمه الأزلي، وعلمه- تعالى- لا تُغيره الحوادث، وقد انقطعت دولة بني إسرائيل، فما بقي الكلام إلا مع الملة المحمدية.
{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ هؤلاء} يعني كفار قريش؛ لأن الكلام معهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على مماثلتهم في الإصرار على الضلالة، والتحذير من حلول مثل حلّ بهم، {لَيقولون إِن هي إِلا موتَتنا الأُولى} أي: ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى، المزيلة للحياة الدنيوية، ولا قصد فيه لإثبات موته أخرى، كقولك: حجّ زيد الحجة الأولى ومات، أو: ما الموتة التي تعقبها حياة إلا الموتة الأولى، التي تقدّمت وجودنا، كقوله: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] كأنهم لما قيل لهم: إنكم تموتون موتة تعقبها حياة، كما تقدمتكم كذلك، أنكروها، وقالوا: ما هي إلا موتتنا الأولى، وأما الثانية فلا حياة تعقبها، أوْ: ليست الموتة إلا هذه الموتة، دون الموتة التي تعقب حياة القبر كما تزعمون، {وما نحن بمُنشَرِين} بمبعوثين، {فأتوا بآبائنا} خطاب لمَن كان بعدهم النشر، من الرسول والمؤمنين، {إِن كنتم صادقين} أي: إن صدقتم فيما تقولون، فعجِّلوا لنا إحياء مَن مات من آبائنا بسؤالكم ربكم، حتى يكون دليلاً على أن ما تعدونه من البعث حق. قيل: كانوا يطلبون أن ينشر لهم قُصيّ بن كلاب، ليُشاوروه، كان كبيرهم ومفزعهم في المهمات، قال تعالى: {أَهُم خيرٌ أم قومُ تُبَّع} ردّ لقولهم وتهديد لهم، أي: أهم خير في القوة والمنعة، اللتين يدفع بهما أساب الهلاك، أم قوم تُبع الحميري؟ وكان سار بالجيوش حتى حيّر الحيرة، وبنى سمرقند، وقيل: هدمها، وكان مؤمناً وقومه كافرين، ولذلك ذمّهم الله تعالى دونه، وكان يكتب في عنوان كتابه: بسم الله الذي ملك برّاً وبحراً ومضحاً وريحاً. قال القشيري: كان تُبَّع ملك اليمن، وكان قومه فيهم كثرة، وكان مسلماً، فأهلك اللّهُ قومَه على كثرة عددهم وكمال قوتهم. ه. روي عنه عليه السلام أنه قال: لا تسبُّوا تُبعاً فإنه كان مؤمناً «ه وقيل: كان نبيّاً، وفي حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال:» لا أدري تُبعاً كان نبيّاً أو غير نبي «. وذكر السهيلي: أن الحديث يُؤذن بأنه واحد بعينه، وهو- والله أعلم- أسعد أبو كرب، الذي كسا الكعبة بعدما أراد غزوه، وبعدما غزا المدينة، وأراد خرابها، ثم انصرف عنها، لما أخبر أنها مهاجَر نبي اسمه» أحمد «وقال فيه شعراً، وأودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر، إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدُّوه إليه. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب الأنصاري: حتى نزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، وفي الكتاب الشعر، وهو: شَهِدتُ عَلَى أَحمَدٍ أَنه *** رَسولٌ مِنَ الله بارِي النَّسمْ فَلَو مُدَّ عُمْرِي إلَى عُمْرهِ *** لكنتُ وزيراً له وابن عَمْ وأَلْزَمتُ طَاعَتَه كلَّ مَن *** عَلَى الأَرْضِ، مِنْ عُرْبٍ وعَجمْ ولَكِن قَوْلي له دَائماً *** سَلاَمٌ عَلَى أَحْمَدٍ في الأمَمْ وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا: أنه حُفر قبرٌ بصنعاء في الإسلام، فوجد فيه امرأتان، وعند رؤوسهما لوح من فضة، مكتوب فيه بالذهب اسمهما، وأنهما بنتا تُبع، تشهدان ألا إله إلا الله، ولا تُشركان به شيئاً، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. ه. ويقال لملوك اليمن: التبابعة؛ لأنهم يُتبعون، ويقال لهم: الأقيال لأنهم يتقيلون. ه. {والذين مِن قبلهم} عطف على «قوم تُبع»، والمراد بهم عاد وثمود، وأضرابهم من كل جبار عنيد، أُولي بأس شديد، {أهلكناهم} بأنواع من العذاب {إِنهم كانوا مجرمين} تعليل لإهلاكهم، ليعلم أن أولئك حيث أهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا عليه من غاية القوة والشدة، فكان مهلكَ هؤلاء- وهم شركاؤهم في الإجرام، مع كونهم أضعف منهم في الشدة والقوة- أولى. قال الطيبي: لما أنكر المشركون الحشر، بقولهم: {إن هي إلا موتتنا الأولى} وبَّخهم بقوله: {أهم خير أم قوم تبع} إيذاناً بأن هذا الإنكار ليس عن حجة قاطعة ودليل ظاهر، بل عن مجرد حب العاجلة، والتمتُّع بملاذ الدنيا، والاغترار بالمال والمآل والقوة والمنعة، أي: كما فعل بمَن سلك قبلَهم من الفراعنة والتبابعة حتى هلكوا، كذلك يفعل بهؤلاء إن لم يرتدعوا. ثم قرّر أن الحشر لا بُد منه بقوله: {وما خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما} أي: بين الجنسين، {لاعبين} لاهين من غير أن يكون في خلقهما غرض صحيح، وغاية حميدة، جلّ جناب الجلال عن ذلك، {ما خلقناهما إِلا بالحق} أي: ما خلقناهما ملتبساً بشيء من الأشياء إلا ملتبساً بالحق، أو: ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، الذي هو الإيمان والطاعة في الدنيا، والبعث والجزاء في العقبى. قال الطيبي: وقد سبق مراراً: أنه ما خلقهما إلا ليوحَّد ويُعبَد، ثم لا بد أن يجزي المطيع والعاصي، وليست هذه دار الجزاء. وقال ابن عرفة: قوله: {إلا بالحق} أي: إلا مصاحبين للدلالة على النشأة الآخرة، وهي حق. ه. {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنهن خُلقن لذلك، بل عبثاً، تعالى الله عن ذلك. الإشارة: كانت الجاهلية تُنكر البعث الحسي، والجهلة اليوم ينكرون البعث المعنوي، ويقولون: {إن هي إلا موتتنا الأولى} أي: موت قلوبنا وأرواحنا بالجهل والغفلة، فكيف يكون الرجل منهمكاً في المعاصي، يمت القلب، ثم ينقذه الله ويُحييه بمعرفته، حتى يصير وليّاً من أوليائه مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز قدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً «أهم خير أم قوم تُبع؟ وقد أخرج الله من قومه أنصار نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانوا من خواص أحبابه، حتى قال:» الناس دثار والأنصار شِعار، لو سلك الناسُ وادياً أو شِعباً، وسلكتْ الأنصارُ وادياً، لسلكتُ واديَ الأنصار وشِعبهم «وما خلقنا الأجرام العظام إلا لتدل على كمال قدرتنا، والسلام.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ يوم الفصل}: أي: فصل احق عن الباطل، وتمييز المحق من المبطل، أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبابه، وهو يوم القيامة، {ميقاتُهم أجمعين} أي: وقت موعدهم كلهم، {يومَ لا يُغني مَوْلىً عن مَوْلىً شيئاً} لا يغني ناصر عن ناصر، ولا حميم عن حميم، ولا نسب عن نسيب، شيئاً من الإغناء. قال قتادة: انقطعت الأسباب يومئذ بابن آدم، وصار الناس إلى أعمالهم، فمَن أصاب يومئذ خيراً، سعد به، ومَن أصاب يومئذ شرّاً شقي به. ه. و{يوم} بدل من يوم الفصل، أو: صفة لميقاتهم، أو: ظرف لما دلّ عليه الفصل، أي: يفصل في هذا اليوم، {ولا هم يُنصرون} يُمنعون مما أراد الله، والضمير ل «مولى» باعتبار المعنى، لأنه عام، وقوله: {إلا مَن رحم} بدل من الواو في «يُنصرون»، أي: لا يمنع من العذاب إلا مَن رحم الله، بالعفو عنه، أو بقبول الشفاعة فيه، أوك منصوب على الاستثناء المنقطع، أو: مرفوع على الابتداء، أي: لكن مَن رحم {اللّهُ} فيُغْنِي عنه {إِنه هو العزيزُ} الغالب، الذي لا يُنصر مَن أراد تعذيبه، {الرحيمُ} لمَن أراد أن يرحمه. {إِنَّ شجرةَ الزقوم} هي على صورة شجرة الدنيا، لكنها من النار، والزقوم تمرها؛ وهو كل طعام ثقيل. رُوي: أنها لما نزلت، جمع أبو جهل عجوة وزبداً، وقال لأصحابه: تزقَّموا، فهذا هو الزقوم، وهو طعامي الذي حدّث به محمد، فقصد بذلك المغالطة والتلبيس على الجهلة. أي: إن ثمر شجرة الزقوم هو {طعامُ الأثيم} أي: الكثير الإثم، وهو الكافر؛ لدلالة ما قبله وما بعده عليه. وقيل: نزلت في أبي جهل، ثم تعم. وكان أبو الدرداء يُقرئ رجلاً، فكان أبو الدرداء يقول: طعام الأثيم، والرجل يقول: طعام اليتيم، فكرّر عليه، فلم يفهم منه؛ فقال: «طعام الفاجر يا هذا». قال النسفي: وبهذا يستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز، إذا كانت مؤدّية معناها، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بالفارسية، بشرط أن يؤدي القارئ المعاني كلها، من غير أن يَخْرِمَ منها شيئاً. انظر بقيته. {كالمُهل} وهو دُردِّيُّ الزيت، أو: ما يمهل في النار فيذوب، من نحاس وغيره، {يغلي في البطون} مَن قرأه بالغيب رده للمهل، أو للطعام، ومَن قرأه بالتاء رده للشجرة، {كغلي الحميم} الماء الحار الذي انتهى غليانه، أي: غليان كغلي الحميم، فالكاف في محل نصب، ثم يقال للزبانية: {خُذوه} أي: الأثيم {فاعتلوه} أي: جُروه، فالعتل: الأخذ بمجامع الشيء والسَّوق بالعنف والقهر، يقال: عتل يعتُلِ بالضم والكسر، أي: جروه {إلى سوء الجحيم} وسطها ومعظمها. {ثم صُبوا فوقَ رأسه من عذاب الحميم} المصبوب هو الحميم، لا عذابه، إلا أنه إذا صب عليه الحميم، فقد صب عليه عذابه وشدته: والأصل: ثم صُبوا فوق رأسه عذاباً هو الحميم، ثم أضيف العذاب إلى الحميم؛ للمبالغة، وزيد «من» للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع، ويقال له: {ذقْ إِنك أنت العزيزُ الكريمُ} على سبيل الهزؤ والتهكُّم، رُوي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني، فوالله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، فتقول له الزبانية هذا على طريق الاستهزاء والتوبيخ. وقرأ الكسائي: «أنك» بالفتح، أي: لأنك أنت العزيز في قومك، الكريم في زعمك. {إِنَّ هذا ما كنتم به تمترون} تشكُّون، وتُمارون فيه، والجمع باعتبار المعنى؛ لأن المراد جنس الأثيم. الإشارة: يوم الفصل هو اليوم الذي يقع فيه الانفصال بين درجة المقربين، ومقام عامة أهل اليمين، فيرتفع المقربون، ويسقط الغافلون، فلا يُغنى صاحبٌ عن صاحب شيئاً، ولا هم يُنصرون من السقوط عن مراتب الرجال، فلا ينفع حينئذ إلا ما سلف من صالح الأعمال، إلا مَن رحم اللّهُ، ممن تعلّق بالمشايخ الكبار، من المريدين، فإنهم يرتفعون معهم بشفاعتهم. وشجرة الزقوم هي شجرة المعصية؛ فإنها تغلي في البطون، وتعوق عن الوصول، فقد قالوا: مَن أكل الحرام عصى الله، أحبَّ أم كرِه، ومَن أكل الحلال أطاع الله، أحبَّ أم كَرِه، فيقال: خُذوه فادفعوه إلى سواء الجحيم، وهي نار القطيعة البُعد، ثم صُبوا فوق رأسه من هموم الدنيا، وشغب الخوض والخواطر، ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم، ولو كنت ذليلاً خاملاً لنلت العز والكرامة. وبالله التوفيق.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)} يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ المتقين في مقامٍ} بضم الميم: مصدر، أي: في إقامة حسنة، وبالفتح: اسم مكان، أي: في مكان كريم، وأصل المقام، بالفتح: موضع القيام، ثم عمّم واستعمل في جميع الأمكنة، حتى قيل لموضع القعود: مقام، وإن لم يقم فيه أصلاً، ويقال: كنا في مقام فلان، أي: مجلسه، فهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم، وقوله: {أمين} وصف له، أي: يأمن صاحبُه الآفات والانتقال عنه، وهو من الأمن ضد الخيانة، وصف به المكان مجازاً، لأن المكان المخيف يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره. وقوله: {في جنات وعُيون} بدل من «مقام» جيء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب، {يلبسون من سُندس} وهو ما رقَّ من الديباج، {وإِستبرقِ} ما غلظ منه، وهو مُعرّب، والجملة إما حال، أو استئناف، حال كونهم {متقابلين} في مجالسهم، يستأنس بعضهم ببعض، {كذلك} أي: الأمر كذلك، قيل: المعنى فيه أنه لم يستوفِ الوصف، وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف، فكأنه قال: الأمر نحو ذلك وما أشبهه، وليس بعين الوصف وتحققه. {وزوجناهم بحُور عِينٍ} أي: قرنّاهم وأصحبناهم، ولذلك عُدي بالباء. قال القشيري: وليس في الجنة عقد نكاح ولا طلاق، بل تمكن الوليّ من هذه الألطاف بهذه الأوصاف ه. والحور: جمع حَوْراء، وهي الشديدة سواد العين، والشديدة بياضها، والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة العَين، واختلف في أنها نساء الدنيا أو غيرها. {يَدْعون فيها بكل فاكهةٍ} أي: يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه، لا يختص بزمان ولا مكان، {آمنين} من زواله وانقطاعه، ومن ضرره عند الإكثار منه، أو: من كل ما يسوءهم، {لا يذوقون فيها الموتَ} أصلاً، بل يستمرون على الحياة الأبدية، {إِلا الموتَة الأولى} سوى الموتة الأولى، التي ذاقوها، أو: لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، فالاستثناء منقطع، أو متصل على أن المراد استحالة ذوق الموت إلا إذا كان يمكن ذوق الموتة الأولى حينئذ، وهو محال، على نمط قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. {ووقاهم} ربهم {عذابَ الجحيم فضلاً من ربك} أي: أعطوا ذلك كله عطاءً وتفضُّلا منه تعالى؛ إذ لا يجب عليه شيء، فهو مفعول له، أو مصدر مؤكد لِما قبله، لأن قوله: {وقاهم} في معنى تفضل عليهم، {ذلك هو الفوز العظيم} الذي لا فوز وراءه؛ إذ هو خلاص من جميع المكاره، ونيل لكل المطالب. {فإِنما يسَّرناه} أي: الكتاب، وقد جرى ذكره في أول السورة، أي: سهَّلنا قراءته {بلسانك} بلغتك {لعلهم يتذكرون} أي: كي يفهموه ويتعظوا به، ويعملوا بموجبه، فلم يفعلوا، {فارتقبْ} فانظر ما يحلّ بهم، {إِنهم مرتَقِبون} ما يحلُّ بك. قال القشيري: فارتقب العواقب ترى العجائب، إنهم مرتَقِبون، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون. ه. الإشارة: إن المتقين شهود ما سوانا في مقام العرفان، وهو مقام المقربين، وهو محل الأمن والأمان، في جنات المعارف، وعيون العلوم والحِكَم، يلبسون من أسرار الحقيقة وأنوار الشريعة، ما تبتهج به بواطنهم وظواهرهم، متقابلين في المقامات، يجمعهم الفناء والبقاء، ويتفاوتون في اتساع المقامات والأسرار، تفاوت أهل غرف الجنان، كذلك، أي: الأمر فوق ما تصف، وزوجانهم بعرائس المعرفة، لا يذوقون في جنات المعارف- إذ دخلوها- الموت أبداً إلا الموتة الأولى، وهي موت نفوسهم، فَحييتْ أرواحهم حياة أبدية، وأما الموت الحسي فإنما هو انتقال من عالم إلى عالم، ومن مقام إلى مقام، ووقاهم ربُّهم عذابَ الجحيم، فضلاً منه وإحساناً، خلقَ فيهم المجاهدة، ومَنَّ عليهم بالمشاهدة. وقال الورتجبي بعد كلام: إذ أحضرهم- تعالى- في ساحة كبريائه، ويتجلّى لهم بالبديهة من غير الجبّارية القهّارية؛ يكونون في محل الفناء، وفي فناء الفناء، وغلبات سطوات ألوهيته، فإذا صاروا فانين، ألبسهم الله لباس بقائه، فيبقون ببقائه أبد الآبدين، فإذاً الاستثناء وقع على التحقيق، لا على التأويل، فيا رُبّ موتٍ هناك، ويا رُبّ حياة هناك؛ لأن الحدَث لا يستقيم عند بروز حقائق بواطن القِدم، ألا ترى إلى إشارة النبي صلى الله عليه وسلم كيف قال: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» أي: فيتلاشى الخلق ويبقى الحق. قيل للجنيد: أهل الجنة باقون ببقاء الحق؟ فقال: لا، ولكنهم مُبْقَوْن ببقاء الحق، والباقي على الحقيقة من لم يزل، ولا يزال بقاياً. ه. والحاصل: أنه لا عدم بعد وجودهم بالله، ولا يكون إلا بعد الفناء عن أوصاف الخليقة، ووجود البشرية، بالاندراج في وجود الحق، ثم الحياة بحياته، والبقاء ببقائه أبداً، قاله في الحاشية الفاسية. والفرق بين الباقي والمبقى في كلام الجنيد: أن الباقي يدلّ على ثبوت بقائه مستقلاً، بخلاف المبقَى، لا وجود لبقائه، بل مبقى ببقاء غيره. وقال في قطب العارفين، لمَّا تكلم على التقوى: التقوى مطرد في وجوه كثيرة، تقوى الشرك، ثم تقوى المعصية، ثم تقوى فضل المباح، ثم تقوي كل ما يسترق القلوب عن الله تعالى، وإلى هذا الصنف الإشارة بسر قوله تعالى: {إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون...} الآية. ه. وعنه صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ذكره في الجامع، وفي فضلها أحاديث، تركتها.
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} قلت: {واختلاف الليل والنهار...} الآية؛ فيها العطف على عاملين، سواء نصبت «آيات» أو رفعتها، فالعاملان إذا نصبت «إن» و«في» أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر في {واختلاف} والنصب في {آيات}، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء، وحرف «في» عملت الواو الرفع في «آيات» والجرّ في «واختلاف» وهذا مذهب الأخفش، فإنه يُجوِّز العطفَ على عاملين، وأما سيبويه فلا يُجيزه، وتخريج الآية عنده: أن يكونَ على إضمار «في»، والذي حسّنه: تقديم ذكر «في» الآيتين قبله، ويؤيده: قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {وفي اختلاف الليل والنهار} وفيها أوجه أُخر. يقول الحق جلّ جلاله: {حم} يا حبيب يا مجيد هذا {تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم} فكونه من الله عزّ وجل دلّ أنه حق وصدق وصواب، وكونه من العزيز دلَّ أنه معجز،، يَغلِب ولا يُغلب، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحِكَم البالغة، وأنه محكَم في نفسه، يَنسِخ ولا يُنْسَخ. ثم برهن على عزته، وباهر حكمته، فقال: {إِنَّ في خلق السماوات والأرض} إِما في نفس السماوات والأرض؛ فإن في شكلهما من بدائع وفنون الحِكَم ما يقصر عنه البيان، وإما في خلقهما وإظهارهما، كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] {لآياتٍ للمؤمنين} لدلالاتٍ على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان، وهو الأوفق بقوله: {وفي خلقِكم} أي: من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق، {وما يَبُتُّ من دابةٍ} عطف على المضاف دون المضاف إليه، أي: وفي خلق ما يبث، أي: ينشر ويُصرّف من دابة {آياتٌ} ظاهرة على باهر قدرته وحكمته، {لقومٍ يُوقنون} أي: من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه، ويعرفوا فيها صانعها، {وفي اختلاف الليل والنهار} أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو: تفاوتهما طولاً، وقصراً، {و} في {ما أنزل اللّهُ من السماءِ مِن رزقٍ} مطر؛ لأنه سبب الرزق، فعبَّر عن السبب بالمسبب؛ لأنه نتيجته، تنبيهاً على كونه آية من جهة القدرة والرحمة، {فأحيا به الأرضَ} بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنبات {بعد موتها} أي: خلُوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها، وخُلوا أشجارها عن الثمار والأزهار. {وتصريفِ الرياح} أي: هبوبها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه في الوجود، إما للإيذان بأنه آية مستقلة، ولو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة، أو: لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر، بل له ولسائر المنافع، التي من جملتها: سوق السفن في البحار، وإلقاح الأشجار، {آياتٌ لقوم يعقلون} يتدبّرون بعقولهم، فيصلون إلى صريح التوحيد. وفي تقديم الإيمان على الإيقان، وتأخير تدبُّر العقل؛ لأن العباد إذا نظروا في السموات والأرض نظراً صحيحاً؛ علموا أنها مصنوعة، وأنه لا بُدَّ لها من صانع، فآمنوا بالله، وإذا نظروا في خلق أنفسهم، وتنقلها من حالٍ إلى حال، وفي خلق ما ظَهَرَ على ظَهْر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت، كتعاقب الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، جنوباً وشمالاً، ودَبوراً وصباً، عقِلوا، واستحكم في عقولهم، وخلص يقينهم، فكانوا من ذوي الألباب. {تلك آياتُ الله} مبتدأ وخبر، و{نتلُوها عليك} حال، العامل: معنى الإشارة، أي: تلك الآيات المتقدمة هي آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال، حال كونها متلوةً عليك، ملتبسة {بالحق} أو: نتلوها محقين في ذلك: فالجار والمجرور: حال من المفعول أو الفاعل. {فبأيّ حديثٍ} من الأحاديث {بعد الله وآياتهِ} أي: بعد آيات الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، أي: أعجبني كرم زيد، أو: بعد حديث الله، الذي هو القرآن، وآياته العامة في كل شيء، فيكون على حذف مضاف، أو: يُراد بها القرآن أيضاً، والعطف للتغاير العنواني، فالأول من جهة كونه حديثاً حسناً، والثاني باعتبار كونه معجزاً، أي: فبأي حديثٍ بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات {يؤمنون} يُصدِّقون؟! ومَن قرأ بالخطاب يُقدر: قل يا محمد. الإشارة: قال القشيري: الحاء تدل على حياته، والميم تدل على مودته، كأنه قال: بحق حياتي ومودتي لأوليائي، لا شيء أعز على أحبائي من لقائي، العزيزُ في جلاله، الحكيم في فعاله، العزيز في أزله، الحكيم في لُطفه بالعبد بوصف إقباله. قوله تعالى: {إِنَّ في السماوات والأرض...} الآية؛ شواهد الربوبية لائحةٌ، وأدلة الإلهية واضحةٌ، فَمَنْ صحا فكره عن سُكر الغفلة، ووضعَ سِرَّه في محل العِبْرة، حَظِيَ- لا محالة- بحقائق الوصلة. ه. قلت: إنما يحظى بالوصلة إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوِّن، ولم يقف مع شيء من حس الكائنات، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني، فعرف فيها مولاها، وشاهد فيها المتجلي بها، وإلا بَقِيَ مسجوناً محصوراً في ذاته. قوله تعالى: {وفي خلقكم...} الآية، قال القشيري: إذا أنعم العبدُ النظرَ في استواء قدِّه وقامته، واستكمال خلقه، وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه، ثم فكّر فيما عداه من الدواب، وأجزائها وأعضائها، ووقف على اختصاصه، وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات، في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان؛ عَرَف تخصيصهم بمناقبهم، وانفرادهم بفضلهم، فاستيقن أن الله أكرمهم، وعلى كثيرٍ من المخلوقات قَدَّمهم. ثم قال في قوله: {واختلاف الليل والنهار...} الآية. جعل الله العلومَ الدينية كسبيةً مُصحَّحةً بالدلائل، مُحتَفةً بالشواهد، فمَن لم يستبصرْ لها زلَّتْ قَدَمُه عن الصراط المستقيم، ووقع في عذاب الجحيم، فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد. ه. قلت: النظر في دلائل الكائنات من غير تنوير، ولا صحبة أهل التنوير، لا تزيد إلا حيرة، ولذلك قال بعضهم: إيمان أهل علم الكلام كالخيط في الهواء، يميل مع كل ريح، فالتقليد حينئذ أسلم، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم، ومَن سقط على العارفين بالله، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد، وأغناه شهود الشهيد عن كل شاهد. عجبت لمَن يبغي عليك شهادة *** وأنت الذي أشهدته كلَّ شاهد كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! تنزّه الحق تعالى أن يفتقر إلى دليل يدلّ عليه، بل به يستدل على غيره، فلا يجد غيره. تلك آيات شواهد نتلوها عليك لترانا فيها، لا لتراها مفروقةً عنا، ولذلك قال تعالى: {بالحق} أي: ملتبسة بنور الحق، الله نور السموات والأرض. قوله تعالى: {فبأي حديث...} الآية، قال القشيري: فَمَنْ لا يؤمن بها فبأي حديث يؤمن؟ ومن أي أصل ينشأ بعده؟ ومن أي بحر في التحقيق يغترف؟ هيهات ما بقي للإشكال في هذا مجال. ه.
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)} يقول الحق جلّ جلاله: {ويلٌ لكل أفَّاكٍ} كذَّاب {أثيم} كثير الآثام، {يسمع آيات الله} التنزيلية {تُتلى عليه} وجملة «يسمع» صفة أخرى لأفَاك، أو استئناف، أو حال من ضمير «أثيم»، «تتلى»: حال من «آيات الله»، {ثم يُصِرُّ} أي: يُقيم على كفره، حال كونه {مستكبراً} عن الإيمان بالآيات، والإذعان لما تنطق به من الحق، مُزْدرياً بها، مُعجَباً بما عنده من الأباطيل. قيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يشتري من أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن سماع القرآن، والآية عامة في كل مَن كان مضاراً لدين الله وجيء بثمّ لأن الإصرارَ على الضلالة، والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن، مستبعدٌ في العقول. ثم قال: {كأن لم يسمعها} أي: كأنه لم يسمعها، فأن مخففة، ومحل الجملة النصب على الحال، أي: يُصر شبيهاً بغير السامع، {فبشِّره} على إصراره واستكباره {بعذابٍ أليم} أي: أخبره خبر يظهر أثره على البشرة، تهكُّماً به. {وإِذا عَلِمَ من آياتنا شيئاً} أي: إذا بلغه من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبّث بها المعاند، ويجد له محملاً فاسداً يتوسل به إلى الطعن والمغمزة، {اتخذها} أي: مهزوءاً بها، لا ما يسمعه فقط، وإنما لم يقل: اتخذه؛ للإشعار بأنه إذا أحسّ بشيء من الكلام فيه شيء بزعمه الركيك؛ لم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، بل يستهزئ بالجميع، ويجوز أن يرجع الضمير (لشيء) لأنه في معنى الآية. {أولئك لهم} بسبب جناياتهم المذكورة {عذابٌ مُهين} وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله تعالى، وجمع الإشارة باعتبار ما في {كل أفَّاك أثيم} من الشمول، كما في قوله تعالى: {كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وأفرد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحدٍ واحد، {مِن ورائهم جهنمُ} أي: من قدّامهم، لأنهم متوجهون إلى ما أعدّ لهم، أو: مِن خلقهم؛ لأنهم معرضون عن ذلك، مقبلون على الدنيا، فإن الوراء: اسم للجهة التي يواريها الشخص من قدّام وخلف، {ولا يُغني عنهم} لا يدفع عنهم {ما كسبوا} من الأموال والأولاد {شيئاً} من عذاب الله تعالى، {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياءَ} أي: الأصنام، و«ما» مصدرية، أو موصولة، وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين ينبئ أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعاً، مبني على زعمهم الفاسد، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم {ولهم عذاب عظيم} لا يقادر قدره. {هذا} أي: القرآن {هُدىً} في غاية الكمال من الهداية، كأنه نفس الهدى، {والذين كفروا بآيات ربهم} أي: القرآن، وإنما وضع موضع ضميره الآيات لزيادة تشنيع كفرهم وتفظيع حالهم، {لهم عذابٌ من رِجْزٍ} من أشد العذاب {أليم} مؤلم، بالرفع صفة «عذاب»، وبالجر صفة «رِجز»، وتنوين عذاب في المواضع الثلاثة للتخيم. الإشارة: مَن لم يضبط لسانه وجوارحه، وتصاممت آذانُ قلبه عن تدبُّر القرآن، فالويل حاصل له، ويُبَشَّر بالخيبة والخسران من مراتب أهل العرفان، ومن ضبط أمور ظاهره بالتقوى، وفتحت آذان قلبه لسماع كلام المولى، فقد فَاز بعز الدارين. قال القشيري: فمَن استمع بسمع الفهم، واستبصر بنور التوحيد، فاز بذُخْر الدارين، وتصدَّى لعز المنزلتين، ومَن تصامم بحكم الغفلة، وقع في وهدة الجهل، ووُسِم بكى الهَجْر. ه. قوله تعالى: {إذا علم من آياتنا شيئاً اتخذوها هزواً} قال القشيري: وقد يُكاشَفُ العبدُ من مواطن القلب بتعريفاتٍ لا يداخله فيها ريبٌ، ولا يتخلله فيها شكٌّ فيما هو فيه من حاله، فإذا استهان بها وقع في ذُلِّ الحجْبة، وحجاب الفرقة وهوانها. ه. فإذا صفا القلب صار مرسى لتجلي الواردات الإلهية، وهي آية من آياته، فإذا تجلّى فيه شيء بأمر أو نهي فاستهان به وخالفه أدّبه الحق على ذلك، إما في ظاهره، وهو أخف، أو في باطنه بالحجبة أو الفرقة، ولقد سمعت شيخ شيخنا، مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه يقول: لي ثلاثون سنة ما خالفت قلبي في شيء إلا أدّبني الحق تعالى عليه. ه. أي: في ظاهره، وذلك لغاية صفائه. قوله تعالى: {من ورائهم جهنم..} الآية، لا عذاب أشد من الحجب بعد الإظهار، والفرقة بعد الوصال، وأنشدوا: فَخَلِّ سَبِيلَ الْعَيْنِ بَعْدَكَ لِلبُكَا *** فَلَيسَ لأيَّام الصَّفاء رجوعُ انظر القشيري.
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} يقول الحق جلّ جلاله: {اللّهُ الذي سخَّر لكم البحر} أي: ذلّله، بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما فوقه، ولا يمنع الغوص فيه، لمَيَعَانه، {لتجري الفلكُ فيه بأمره} بإذنه، وأنتم راكبوها، {ولتبتغوا من فضله} بالتجارة، والغوص لابتغاء الحلية، كاللؤلؤ والمرجان، وكالصيد وغيرها، {ولعلكم تشكرون} ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، {وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض} من الموجودات. بأن جعلها مداراً لمنافعهم. قال القشيري: إذ ما من شيء من الأعيان الظاهرة، إلا وللإنسان به انتفاع من وجوه، فالسماء لها بناء، والأرض لهم مِهاد، وليتأمل العبدُ في كل شيء لو لم يكن، أيّ خلل يرجع إلى الخلق؟ لولا الشمس كيف كانوا يتصرفون بالنهار؟ ولولا الليل، كيف كانوا يسكنون؟ ولولا القمر هل كانوا يهتدون للحساب والآجال؟ وكذلك جميع المخلوقات. ه. وقوله: {جميعاً منه} حال، وليس من التوكيد لعدم الضمير، ولو كان توكيداً لقال: جميعه ثم التوكيد بجميع قليل، فلا يحمل التنزيل عليه، قاله في المغني. والمنفي كونه توكيداً اصطلاحياً، فلا ينافي كونه حالاً مؤكدة في المعنى. {إِنَّ في ذلك} أي: فيما ذكر من الأمور العظام {للآياتٍ} عظيمة الشأن، كثيرة العدد، {لقوم يتفكرون} في بدائع صنعه تعالى، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها، ويُوفَّقون لشكرها. الإشارة: {الله الذي سخَّر لكم بحر} التوحيد الخاص، وهو تجلِّي عظمة الذات، لتجري فلكُ الأفكار في تيار بحر الذات ونور الصفات، فتراها تعوم تارة في أسرار الجبروت الأعلى، وتارة في أنوار الملكوت الأدنى، ولتبتغوا من فضل معرفته، وزيادة الترقي في كشف الأسرار، وهذا لمَن اتسع عليه فضاء الشهود، وزاحت عنه حُجب الكائنات، وأما مَن بقي مسجوناً فيها، السماء تُظله، والأرض تُقله، فلا يطمع أن تسرَحَ فكرته في هذه البحار، وحسبه أن يكون حَمّاراً يسافر في البَر، تعبه كثير، وربحه قليل، والغناء به بعيد، وسبب بقائه في تعب البر عدم صحبته للرجال البحرية، الذين هم رُيَّاس البحر، وشيوخ ركْب البر. وبالله التوفيق. قال القشيري: {الله الذي سخر لكم البحر} تركبونه، فربما تسْلَم السفينةُ، وربما تغرق، كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشي بهم رياح العناية، وترفع لهم شراع التوكُّل، تجري في البحر لتَجْر اليقين، فإن هبّت رياحُ السلامة نجت السفينة، وإن هبّت نكباء الفتنة لم يبقَ بيد الملاّح شيء، فعند ذلك المقادير غالبة، وبلغت قلوبُ أهل السفينة الحناجرَ. ه. قلت: مَن ركب مع رائس ماهر؛ الغالب عليه السلامة. قوله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه} في بعض الأثر: يقول الله تعالى: «يا ابن آدم؛ خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك لأجله» أي: لا تنشغل بخدمة الكون عن خدمة المكوّن، فما أفلح مَن انشغل بدنياه، وآثر هواه على خدمة مولاه، كان حرّاً والأشياء كلها عبيد له، فصار عبداً لعبيده، بحبه للأشياء وتعشُّقه لها، كانت الأشياء تعشقه وتخدمه، ثم صار يخدم الأشياء ويعشقها، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن، فإذا شَهِدت المكوّن كانت الأكوان معك، فاعرف قدرك أيها الإنسان، وارفع همتك عن الأكوان، وعلِّق قلبك بالملك الديّان، يُعطك الحق تعالى من العرش إلى الفرش، تتصرف فيه بهمتك كيف شئت، وما ذلك على الله بعزيز.
{قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)} قلت: {يغفِروا} قيل: جواب الأمر المذكور، أي: إن تقل يغفروا، وقيل لأمر محذوف، أي: قل لهم اغفروا يغفروا، وقيل: حذف لام الأمر، أي: ليغفروا، وقرأ أبو جعفر: (ليُجزي قوماً) بالبناء للمفعول، ونصب (قوماً) إما على نيابة المصدر، أي: ليجزي الجزاء قوماً، أو ليجزي الخيرُ قوماً، فأضمر الخير؛ لدلالة الكلام عليه، أو ناب الجار مع وجود المفعول به، وهو قليل. يقول الحق جلّ جلاله: {قل للذين آمنوا يغفِروا للذين لا يرجون أيامَ الله} أي: يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون نِقَمه ووقائعه بأعدائه، من قولهم: «أيام العرب» لوقائعها، أو: لا يأمّلون الأوقات التي وقّتها الله تعالى لثواب المؤمنين، ووعدهم بالفوز فيها. قيل: نزلت قبل آية القتال ثم نُسخت، قال ابن عطية: ينبغي أن يقال: إن الأمور العظام، كالقتل والكفر مجاهدة ونحو ذلك، قد نَسخ غفرانَه آيةُ السيف والجزية، وإن الأمور الحقيرة، كالجفاءِ في القول ونحو ذلك، يحتمل أن تبقى مُحكمة، وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى. ه. قيل: نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من غفار، فهَمَّ أن يبطشَ به، فنزلت. وقيل: نزلت في ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في أذّى شديد من المشركين، قبل أن يُؤمروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تكون الآية مكية. وقال ابن عباس: لما نزل: {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] قال فنحاص: افتقر رَبُّ محمد، فلما بلغ ذلك عُمر، طلبه بالسيف؛ ليقتله، فنزلت، فوضع السيف، وقال: والذي بعثك بالحق لا يُرى الغضب في وجهي. وقيل: في شأن أُبيّ ابن سلول، رأس المنافقين، لَمّا قال في غزوة المريسيع: ما مثلُنا ومثل هؤلاء- يعني المهاجرين- إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبَك يأكلك، فبلغ ذلك عمر، فاشتمل السيف، يريد التوجه إليه، فنزلت. وعلى هذا تكون مدنية. {لِيَجزيَ قوماً بما كانوا يكسبون} أي: إنما أُمروا أن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. وتنكير (قوم) مدح لهم، كأنه قيل: لِيَجزي قوماً- أيَّما قوم، أو قوماً مخصوصين- بالصبر بسبب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة، التي من جملتها الصبر على إذاية الكفار، والإغضاء عنهم، بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم، ويجوز أن يُراد بالقوم: الكفرة، وبما كانوا يكسبون: سيئاتهم، التي من جملتها ما كانوا يؤذون به المسلمين. {من عَمِلَ صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} أي: لها الثواب وعليها العقاب، لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله، {ثم إِلى ربكم تُرجعون} فيجازيكم على أعمالكم، خيراً كان أو شرّاً. الإشارة: مذهب الصوفية: العفو عمن ظلمهم، والإحسان إلى مَن أساء إليهم؛ لأنهم رحمة للعباد، ومقصدهم بذلك رضا الله، لأن الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله. قال اللجائي رضي الله عنه في شمائل الخصوص: قصد السادات بالعفو عمن ظلمهم، ابتغاء مرضاة الله، لا ابتغاء الثواب، فإنه تعالى يحب العفو، وتسمَّى به. ومقصدهم بالعفو أيضاً: قطع العداوة الحِقد عن الظالم، وترك الانتصار منه، بيدٍ أو لسان، استعداداً منهم لسلامة الصدور. ومقصدهم أيضاً: زوال الذِّلة عن الظالم في موقف الحساب، من أجل ما يطالَبُ به من الحقوق، وهو ضرب من الشفقة على العبيد، وهو مقام محمود، فشأنهم رضا الله عنهم إذا حلّ بالعباد في الموقف بلاء، أرادوا أن يكونوا للخلق فداء، فهذا أدنى مقام في العفو. ه. وفي الحديث: «إذا جمع الله الخلائقَ يوم القيامة، نادى مناد: أين أهل الفضل، فيقوم ناس، وهم يَسير، فينطلقون إلى الجنة سِراعاً، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إنَّا نراكم سراعاً؟ فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: ما فضلُكُم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صَبَرْنا، وإذا جُهلَ عينا حَلُمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة: فنعم أجر العاملين». قال القشيري بعد كلام: فمَن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءَه، وكيف يُدمِّر أعداءَه، فليصبرْ على أيامٍ قلائل، ليعلم كيف صارت عواقبُهم، مَن عمل صالحاً فله مَهْناه، ومَن ارتكب سيئة قاسى بلواه، ثم مرجعه إلى مولاه. ه.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)} يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكْمَ} أي: الفصل بين العباد، لأن الملك لم يزل فيهم حتى غيّروا، أو: الحكمة النظرية والعملية والفقه في الدين، {والنبوة} حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم. {ورزقناهم من الطيبات} ما أحلّ الله لهم من اللذائذ، كالمن والسلوى، وغيره من الأرزاق، {وفضلناهم على العالَمين} على عالمي زمانهم. {وآتيناهم بيناتٍ من الأمر} دلائل ظاهرة من أمر الدين، ومعجزات قاهرة. قال ابن عباس: هو العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وما بُيّن لهم من أمره، وأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب، {فَما اختلفوا} في ذلك الأمر {إِلا من بعد ما جاءهم العلمُ} بحقيقته وحقيّته، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً له، {بغياً بينهم} أي: عداوة وحسداً، حديث بينهم، لا شك وقع لهم فيه، {إِن ربك يقضي بينهم يوم القيامة} بالمؤاخذة والجزاء {فيما كانوا فيه يختلفون} من أمر الدين. الإشارة: كانت بنو إسرائيل في أول أمرها متمسكة بكتاب ربها، عاملة بما شرعت لها أنبياؤها، فرفع الله بذلك قدرها، حتى تحاسدوا، وتهاجروا على الدنيا والرئاسة، فأعقبهم الله ذل الأبد، فهذه سُنَّة الله تعالى في عباده، مَن تمسّك بالكتاب والسنّة، وزهد في الدنيا، وتواضع لعباد الله، رفعه الله وأعزّه، فإذا خرج عن هذا الوصف انعكس حاله إلى أسفل، والعياذ بالله.
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} يقول الحق جلّ جلاله: {ثم جعلناك} يا محمد بعد اختلاف أهل الكتاب، {على شريعةٍ} على طريقة عظيمة الشأن، ومنهاج واضح {من الأمر} الدين، وأصل الشريعة في اللغة: مورد الماء، أي: الطريق الموصلة إليه، ثم جعل للطريق الموصلة إلى حياة القلوب والأرواح؛ لأن الماء به حياة الأشباح، {فاتّبِعْها} بإجراء أحكامها في نفسك وفي غيرك، من غير إخلال بشيء منها. قال ابن عرفة: الخطاب له عليه السلام، والمراد غيره؛ لأنه معلوم الاتباع التام، أو: دم على اتباعها. ه. {ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} أي: لا تتبع آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش، كانوا يقولون له صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى دين آبائك. {إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئاً} مما أراد بك إن اتبعتهم، أي: لن ينفعونك بدفع ما ينزل بك بدلاً من الله شيئاً إن اتبعت أهواءهم، {وإِنَّ الظالمين بعضُهم أولياءُ بعضٍ} فلا يُواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا مَن كان ظالماً مثلهم، {والله وليّ المتقين} أي: ناصر المتقين، الذين أنت قدوتهم، فدمْ على ما أنت عليه من توليته خاصةً، والإعراض عما سواه بالكلية. {هذا بصائرُ للناس} أي: هذا القرآن واتباع الشريعة بصائر لقلوب الناس، كما جُعل روحاً وحياة لها، فإنَّ مَن تمسك بالكتاب والسنّة، وأمعن فيها النظر، وعمل بمقتضاهما، فُتحت بصيرته، وحيي قلبُه، {وهُدىً} من الضلالة {ورحمةٌ} من العذاب {لقوم يوقون} لمَن كَمُلَ إيمانه وإيقانه بالأمور الغيبية. الإشارة: الشريعة لها ظاهر وباطن، وهو لُبها وخالصها، فالعامة أخذوا بظاهرها، فأخذوا بكل ما يُبيحه ظاهرالشريعة من الرخص والسهولة، ولا نظر عندهم لقلوبهم من النقص والزيادة، والخاصة أخذوا بباطنها، فأخذوا منها بالمُهم، وتركوا كل ما يَفتنهم أو ينقص من نور إيقانهم، فوصلوا بذلك إلى حضرة ربهم، فيقال للمريد: ثم جعلناك على طريقة واضحة من أمر الخاصة، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ما يزيد في قلوبهم وما ينقص. إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً إن أبعدك بميلك إليهم واتباع أغراضهم. قال القشيري: {إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئاً} إن أراد بك نعمة، فلا يمنعُها أحد، وإن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد، فلا تُعلِّقْ بمخلوقٍ فكرك، ولا توجه ضميرك إلى شيء، وثِقْ به، وتوكلْ عليه. ه. وأهل الغفلة بعضهم أولياء بعض، يتوالون على حظوظ الدنيا وشهواتها، {والله وليُّ المتقين} الذي اتقوا كل ما يشغل عن الله، {هذا بصائر للناس} أي: سبب فتح بصائرهم، {وهُدى} أي: إشارة لطريق الوصول، ورحمة للأرواح والقلوب، لقوم يوقنون، أي: لأهل اليقين الكبير. قال القشيري: {هذا بصائرُ للناس} أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونهما تهمةُ التجويز، ونظرُ الناس على مراتب، مَن نظر بنور نجومه، فهو صاحب عقل، ومَن نظر بنور فراسته فهو صاحب ظن، يُقَوِّيه لوْحُ، لكنه من وراء ستر، ومَن نظر بيقين فهو على تحكُّم برهان، ومَن نظر بعين إيمان فهو بوصف اتباع، ومَن نظر بنور بصيرة، فهو على نهار، وشمسه طالعة، وشمسه عن السحاب مصيحة. ه.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)} قلت: {أم}: منقطعة، والهمزة لإنكار الحسبان، مَن قرأ «سواء» بالرفع؛ فخبر مقدّم، و{محياهم}: مبتدأ، ومَن قرأ بالنصب؛ فحال من ضمير الظرف، أي: كائنين كالذين آمنوا، حال كونهم مستوياً محياهم ومماتهم، و«محياهم»- حينئذ- فاعل بسواء، وقرأ الأعمش: «ومماتهم» بالنصب على الظرفية. يقول الحق جلّ جلاله: {أم حَسِبَ الذين اجْتَرحوا} اكتسبوا {السيئات} من الكفر والمعاصي، وسميت الأعضاء جوارح؛ لاكتسابها الخير والشر، ويقال: فلان جارحة أهله؛ أي: كاسبهم، أي: أظنُّوا أن نصيِّرهم {كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهم فيما هم فيه من محاسن الأعمال، ونعاملهم معاملتهم في رفع الدرجات، أي: حتى يكونوا {سواءً} في {محياهم ومماتهم} كلاَّ، بل نجعل أهل الإيمان في محياهم ومماتهم متنعمين بطاعة مولاهم، مطمئنين به، يَحيون حياة طيبة، ويموتون موتة حسنة، وفي مماتهم مكرمين بلقاء مولاهم، في روح وريحان، وجنات نعيم، ونجعل أهل الكفر والعصيان في محياهم في ذُلّ المعصية، وكد الحرص وكدر العيش، وفي الممات في ضيق العذاب الخالد، {ساء ما يحكمون} أي: ساء حكمهم هذا، أو: بئس شيئاً حكموا به. قال النسفي: والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ومماتاً؛ لافتراق أحوالهم أحياء، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على اقتراف السيئات، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة، وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة. وقيل: معناه: إنكار أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة في الرزق والصحة. ساء ما يحكمون، فليس مَن أُقْعِدَ على بساط الموافقة، كمَن أُبعد في مقام المخالفة، بل تفرّق بينهم، فنعلي المؤمنين، ونخزي الكافرين. ه. وسبب نزول الآية: افتخار وقع للكفار على المؤمنين، قالوا: لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن فيها كما فضلنا في الدنيا، فردّ الله عليهم، وأبطل أمنيتهم. {وخلق اللّهُ السماوات والأرض بالحق} لتدل على قدرته على البعث وغيره، قال البيضاوي: كأنه دليل على الحُكم السابق، من حيث إن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل، يقتضي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن والمسيء، إذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات. ه. {ولتُجزى كلُّ نفسٍ بما كَسَبَتْ} عطف على هذه العلة المحذوفة، أي: لتدل ولتُجزى، أو على «بالحق» لأن فيه معنى التعليل؛ إذ معناه: خلقها مقرونة بالحكمة والصواب، دون العبث ولتُجزى... الخ، أو: ليعدل وتُجزى كل نفس بما كسبت، {وهم} أي: النفوس، المدلول عليها بكل نفس {لا يُظلمون} بنقص الثواب أو زيادة عقاب. الإشارة: أم حَسِبَ الذين ماتوا على دنس الإصرار، أن نجعلهم كالمطهرين الأبرار أم حسب الذين عاشوا في البطالة والتقصير أن نجعلهم كالذين عاشوا في الجد والتشمير؟ «أم حَسِبَ الذين عاشوا في غم الحجاب، وصاروا إلى سوء الحساب، أن نجعلهم كالذين تهذّبوا حتى ارتفع عنهم الحجاب، وصاروا إلى غاية الكرامة والاقتراب؟ لا استواء بينهم في المحيا ولا في الممات، الأولون عاشوا معيشة ضنكاً، وصاروا بعد الموت إلى الندامة والحسرة، والآخرون عاشوا عيشة راضية، وماتوا موتة طيبة، وصاروا إلى كرامة أبدية، ولهذا بكت الأكابرُ عند قراءتها، فَرُويَ عن تميم الداري: أنه كان يُصلي ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويرددها إلى الصباح. وعن الفُضيل: أنه بلغها، فجعل يبكي، ويقول: يا فضيل! ليت شعري من أيّ الفريقين أنت؟ وعن الربيع بن خيثم: أنه قام يصلي ليلة، فمرّ بهذه الآية، فمكث ليلةً حتى أصبح يبكي بكاءً شديداً، وكانت تُسمى مَبْكاة العابدين.
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} يقول الحق جلّ جلاله: {أفرأيتَ مَن اتخذ إِلهَهُ هواه} أي: أباح لنفسه كل ما تهواه، سواء كان مباحاً أو غير مباح، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه، وإليه أشار في المباحث بقوله: ومَن أباح النفس ما تهواه *** فإنما معبوده هواه فالآية وإن نزلت في هوى الكفر؛ فهي متناولة لكل هوى النفس الأمَّارة، قال ابن جبير: نزلت في قريش والعرب، كانوا يعبدون الحجارة والذهب والفضة، فإذا وجدوا شيئاً أحسن أَلْقَوه وعبدوا غيره. ه. ومتابعة الهوى كلها مذمومة، فإن كان ما هوته مُحرّماً أفضى بصاحبه إلى العقاب، وإن كان مباحاً بقي صاحبه في غم الحجاب وسوء الحساب، وأسْرِ نفسه وكدِّ طبعه. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «ما عُبد تحت السماء أبغض إلى الله تعالى من هوى»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مهلكات؛ شحٌّ مطاع، وهوىً متبع، وإعجابُ المرء بنفسه» وقال أيضاً: «الكيِّسُ مَن دان نفسه، وعَمِلَ لما بعد الموت، والعاجز مَن أَتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله»، وسيأتي في الإشارة تمامه. ثم قال تعالى: {وأضلَّه اللّهُ على علم} أي: خذله على علم منه، باختياره الضلالة، أي: عالماً بضلاله، وتبديله لفطرة الله التي فطر الناس عليها. وقيل: نزلت في أمية بن أبي الصلت، وكان عنده علم بالكتب المتقدمة، فكان ينتظر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر، قال: ما كنتُ لأومن لرسول ليس من ثقيف، وأشعاره محشوة بالتوحيد، ولكن سبق له الشقاء، فلم يؤمن، وختم على سمعه فلا يقبل وعظاً وقلبه، فلا يعتقد حقاً أي: لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتكفّر في الآيات والنُذر. {وجَعَلَ على بصره غشاوةً} أي: ظلمة مانعة نم الاعتبار والاستبصار، {فمَن يهديه من بعدِ الله} من بعد إضلال الله إياه؟ {أفلا تَذَكَّرون} أفلا تتعظون، فتُسلمون الأمور إلى مولاها، يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء. الإشارة: حقيقة الهوى كل ما تعشقه النفس، وتميل إليه من الحظوظ العاجلة، ويجري ذلك في المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، والجاه، ورفع المنزلة، فليجاهد العبد نفسه في ترك ذلك كله، حتى لا تحب إلا ما هو طاعة يقرب إلى الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمنُ أحدكُم حتى يكون هواه تابعاً لما جئتُ به» فإن كان في طريق الإرادة والتربية ترك كل ما تميل إليه نفسه وتسكن إليه، ولو كان طاعة، كما قال البوصيري رضي الله عنه: ورَاعِها وهي في الأعمالِ سائمة *** وإن هي استحْلت المرعى فلا تُسِمِ فإنَّ حلاوة الطاعة سموم قاتلة، يمنع الوقوف معها من الترقي إلى حلاوة الشهود ولذة المعرفة، وكذلك الركون إلى الكرامات، والوقوف مع المقامات، كلها أهوية تمنع مما هو أعلى منها؛ من مقام العيان، فلا يزل المريد يُجاهد نفسه، ويرحلها عن هذه الحظوظ، حتى تتمحّض محبتها في الحق تعالى، فلا يشتهي إلا شهود ذاته الأقدس، أو ما يقضيه عليه، فإذا ظهر بهذا المقام لم تبقَ له مجاهدة ولا رياضة، وكان ملكاً حرّاً، فيقال له حينئذ: لك الدهر طوع، والأنام عبيد *** فعش، كل يوم من أيامك عيد وطريق السير في هذا أن يُساس نفسه شيئاً فشيئاً، يمنعها من المكروهات، ثم من المباحات شيئاً فشيئاً، حتى تستأنس، يترك شهوة ثم أخرى، وهكذا، وأما لو منعها الكل دفعة واحدة فربما تمل وتسقط، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا يكن أحدكم كالمُنبت، لا أرضاً قَطَع، ولا ظهراً أبقى» وإلى هذا أشار في المباحث، حيث قال: واحتلْ على النفس فرب حيلهْ *** أنفع في النصرة من قبيلهْ وأعظم الحظوظ حُب الجاه والتقدُّم، فلا يسامحها المريد في شيء من ذلك قط، ولينزل بها إلى الخمول والسفليات، وأما شهوة البطن والفرج، فما تشوّفت إليه النفس من ذلك فليمنعها منها كليّاً، وما أتاها من غير حرص ولا تشوُّف فليأخذ منه قدر الحاجة، مع الشكر عيله، هكذا يسير حتى يتحقق وصوله، ويتمكن من معرفة الحق، وحينئذ فلا كلام معه، كما تقدّم، ولا بد من صُحبة شيخ عارف كامل، يلقيه زمام نفسه، فيحمله بهمته، وإلا فلا طاقة على مجاهدتها أصلاً، وجَرَّب ففي التجريب علم الحقائق. قال القشيري: مَن لم يَسْلك سبيلَ الاتباع، ولم يستوفِ أحكام الرياضة، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية، ولم يؤدبَه إمامٌ مُقتدًى به، فهو ينحرفُ في كل وَهْدةٍ، ويهيمُ في كل ضلالة، ويضلُّ في كل فجٍّ، خسرانه أكثر من ربحه، ونقصانه أوفر من رجحانه، أولئك في ضلال بعيد، زِمامُهم بيد هواهم، أولئك أهل المكر، استْتُدرِجُوا وما يشعرون. ه. وفي الحِكَم: «لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك، وإنما يخاف من غلبة الهوى عليك». فمَن غَلَبَه الهوى غَلَبَه الوجود بأسره، وتصرّف فيه، أحبّ أم كَرِهَ، ومَن غلب هواه غلب الوجودَ بأسره، وتصرّف فيه بهمته كيف شاء. حكي عن أبي عمران الواسطي، قال: انكسرت بنا السفينة، فبقيت أنا وامرأتي على ألواح، وقد وَلَدَتْ في تلك الليلة صبية، فصاحت بي، وقالت: يقتلني العطش، فقتل: هو ذا يرى حالنا، فرفعتُ رأسي، فإذا رجل جالس في يده سلسلة من ذهب، فيها كوز من ياقوت أحمر، فقال: هاك اشربا، فأخذتُ الكوز، فشربنا، فإذا هو أطيب من المسك، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، فقلتُ: مَن أنتَ؟ فقال: أنا عبد لمولاك، فقلت: بِمَ وصلتَ إلى هذا؟ فقال: تركت هواي لمرضاته، فأجلسني في الهواء، ثم غاب ولم أره. ه. وقال سهل رضي الله عنه: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وقال وهب: إذا عرض لك أمران وشككت في خيرهما، فانظر أبعدهما من هواك فأته. ه. ومثله في الحِكَم: «إذا التبس عليك أمران، فانظر أثقلهما على النفس، فاتبعه، فإنه لا يَثْقُل عليها إلا ما كان حقاً». فالعز كله في مخالفة الهوى والذل والهوان كله في متابعة الهوى، فنُونُ الهوان سُرقت من الهوى، كما قال الشاعر: نونُ الهوانِ من الهوَى مسروقةٌ *** وأسيرُ كل هوى أسير هوان وقال آخر: إن الهوَى لهو الهوانُ بعينه *** فإذا هوَيْتَ فقد لَقِيتَ هَوانَا وإذا هَوِيتَ فقد تعبَّدكَ الهوَى *** فاخضعْ لحِبّك كائناً مَنْ كانا وقال ابن المبارك: ومن البلاءِ للبلاءِ علامةٌ *** ألاّ يُرى لك عن هَوَاكَ نُزُوعُ العبدُ أعنَى النفسَ في شهواتها *** والحرُّ يَشبَعُ تارةً ويجوعُ ولابن دُريد: إذا طالبتك النفسُ يوماً بشهوةٍ *** وكان إليها للخلافِ طريقُ فدعْها وخالِفْ ما هويتَ فإنما *** هَواك عدوٌ والخلاف صديقُ وقال أبو عُبيد الطوسي: والنفسً إن أعطيتها مُنَاها *** فاغِرَةٌ نحوَ هواها فَاهَا هذا، وللآية إشارة أخرى، رُويت عن بعض مشايخنا، قال: يمكن أن تكون الآية مدحاً، يقول تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه} وهو الله تعالى، ومحبوبَه وهواه، لا يهوى معه غيره، وأضله الله، في محبته، على علم منه بالله، وختم على سمعه وقلبه وبمحبته، فلا يسمع إلا منه، ولا يُحب غيره، وجعل على بصره غشاوة، فلا يرى سواه، فمَن يهديه هذه الهداية العظمى من بعد الله، وهذا يُسلّم في طريق الإشارة، لأنها خارجة عن سياق العبارة، وللقرآن أسرار باطنة، يعرفها أهل الباطن فقط، فسلِّم تَسْلَمْ.
|